كتب : عمرو نوار
لم يسر المصريون قديما وراء فرعون ليغرقوا فى البحر «رهبة» من فرعون بل «خوفا» على مصر..
ولاحظ – إن شئت أن تلاحظ – أن كل نبى كان يبعث فى «أرض» قومه «إلا موسى» الذى بعث فى «أرض مصر» التى عاش فيها قومه مائتى عام على أقل تقدير ولم يكونوا أبدا وحدة من نسيجها كعادة بنى إسرائيل فى كل أراضى التيه والاغتراب والدليل أنهم خرجوا فور النداء من أرض مصر ولم يعودوا إليها ويحتفلون بعد ألفى عام بهذا الخروج فى كل عيد فصح..
من هذا المعيار نظر الشعب المصرى إليهم وإلى موسى كغرباء، حيث كان هذا المعيار والتقييم هو البوصلة التى تقود الشعب للحفاظ – فى رأيه – على وحدة أراضى مصر وأمنها وعزتها..
وإن كان تأثير مصر الساحرة قد جعل بنى إسرائيل – لاحقا – يطلبون من نبى الله موسى أن يحضر لهم «طبق فول» مصرى مفضلينه على طعام السماء «المن والسلوى»، هذه هى مصر وهذا هو سحرها وهذه هى معاييرها وقيمها الثابتة..
ومن هذه المعايير عرف المصريون عبر تاريخهم مبدأ «حكمة التقييم» هذه الحكمة التى كانت تدفع بالمبدعين فى كل مجال إلى أوائل الصفوف وهى التى صنعت «عميد الأدب العربى» و«سيدة الغناء العربى» و«سيدة الشاشة العربية» «وعميد المسرح العربى» و«أمير الشعراء»
وهى التى أنتجت عالم العلماء «د.مشرفّه» وشيخ المهندسين «د.حسن فتحى» وصنعت «عبدالحليم» و«نجيب الريجانى» وكل المبدعين المصريين فى جميع المجالات.. كان لدى الشعب المصرى عبر تاريخه هذا المعيار الصارم والميزان الدقيق لاختيار وانتخاب الصفوة فخرجت النتائج مبهرة علما وفنا وأدبا وحضارة..
كان «الغربال الشعبى» يطرد كل المدعين وأنصاف الموهوبين اعتمادا على ذوق جمعى عام لا يخالفه إلا قلة متدنية الفكر والذوق والثقافة تكاد تذوب وسط هذا الزخم الإلهامى المستقر فى عقل وقلب هذا الشعب..
وعند هذه النقطة يجب أن نتوقف وإن استطعنا أن نوقف التاريخ نفسه لنفهم ما الذى حدث لهذه «المعايير الثابتة» وهذا «الميزان الدقيق ..
أين ذهب «الغربال الشعبى» والذوق الجمعى، حتى يتصدر المشهد فى مصر فى شتى المجالات أولئك الذين سقطوا سابقا من هذا «الميزان العادل» والغربال المستقيم؟
الحقيقة أن الإجابة عن هذا السؤال تستلزم العودة قرابة أربعين عاما إلى الوراء ويمكن لنا مع بعض «التحفظ» أن نسميها «أعوام التيه» التى انقلبت فيها «معايير التقييم» وتم قطع «الغربال» نفسه فتهنا فى الأرض أربعين عاما تم فيها صعود هذه الطبقة التى كانت قّلة متدنية الفكر والذوق والثقافة إلى أن تصدرت المشهد وأمسكت بـ«غربال» الاقتصاد والسياسة والفن والإعلام، فانتخبت من يصلح لتكوينها ومزاجها العام فتبدلت المعايير من «الجندول» إلى «أديك فى السقف تمحّر» ومن «اقتصاد الشعب» والقطاع العام وشركات الغزل والنسيج وصناعة السيارات والصواريخ إلى «اقتصاد الفساد» واستيراد «الطعمية بالكافيار»
هذا هو مشوار «التيه» الذى قطعه الشعب المصرى عبر أربعين عاما..
والدعوة الآن هى إحداث «انقلاب فكرى «لتنحية هذه الطبقة المتعفنة بكل رموزها أدبا وفنا وإعلاما وسياسة واقتصادا واستعادة هذا «الغربال الشعبى المقدس» وإعادة «البوصلة» والميزان الذهبى لعقل وقلب هذا الشعب..
ويكفى أن يكون هناك قلّة مخلصة لإحداث هذا التغيير وعلمّنا التاريخ أن مصر قادرة مبهرة وتستطيع استعادة الحكمة المنقوشة على جدران «قدماء المصريين» قبل أن يضيّع «جدداء المصريين» هذه الحضارة الباقية ما بقيت حياة على سطح هذا الكوكب.